بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فإن الزكاة واجبة في النقود وثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34)، وأما السنة فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمى عليه في نار جهنم"، وأما الإجماع، فقد اتفق المسلمون في كل العصور على وجوب الزكاة في النقود، ولا خلاف بين أهل العلم، على أن زكاة الذهب والفضة (النقود) المتخذة للكنز والادخار يكون ربع العشر 2.5%.
وإليك تفصيل ذلك في فتوى الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله :
أدلة وجوب الزكاة في النقود: وجوب الزكاة في النقود ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى في سورة التوبة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (سورة التوبة: 34 - 35). فنبهت الآيتان بهذا الوعيد الشديد على أن في الذهب والفضة حقًا لله تعالى إجمالاً، وفي قوله: (لا ينفقونها) إيماء إلى أن المراد بالذهب والفضة نقودهما، لأنها هي المعدة للإنفاق، والآلة المباشرة له، ويؤكد ذلك قوله: (ولا ينفقونها)، بدل "ولا ينفقونهما" لأن الضمير عائد عليهما باعتبارهما دراهم ودنانير، أي باعتبارهما نقودًا. وقد رتبت الآيتان الوعيد على أمرين: كنزهما، وعدم إنفاقهما في سبيل الله، ولا شك أن مانع الزكاة لم ينفقهما في سبيل الله.
وأما السنة فقد جاءت ببيان ما نبه عليه القرآن وتأكيده: ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" (رواه مسلم في كتاب "الزكاة" وأخرجه أيضًا البخاري وأبو داود وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه -سبل السلام: 2/129- ط مصطفى الحلبي) .
إن هذا الوعيد لمن لا يؤدي حق الذهب والفضة. وفي رواية أخرى بيان للمراد بهذا الحق، وأنه الزكاة حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاته إلا أحمى عليه في نار جهنم" الحديث (نقل الحافظ ابن حجر عن الشافعي أنه قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الورق صدقة، فأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة، إما بخبر لم يبلغنا، وإما قياسًا". وقال ابن عبد البر: "لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات" (سبل السلام: 2/129 - ط الحلبي). أقول: يكفينا مستندًا في إيجاب الزكاة في الذهب آية الكنز، وما يفسرها من الحديث الصحيح الذي ذكرناه بروايتيه.
أما ما ذكر الشافعي وابن عبد البر، فيصدق على النصاب ومقدار الواجب، إذ لم يثبت فيهما بشأن الذهب حديث صحيح مرفوع متفق عليه ولكن المقدار ثبت بالإجماع، كما سيأتي). وفي حديث أنس السابق في بيان الصدقات التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، حسبما كتبه له أبو بكر لما وجهه إلى البحرين "وفي الرقة: في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها".
وأما الإجماع، فقد اتفق المسلمون في كل العصور على وجوب الزكاة في النقدين. حكمة إيجاب الزكاة في النقود إن مهمة النقود أن تتحرك وتتداول، فيستفيد من ورائها كل الذين يتداولونها، وأما اكتنازها وحبسها، فيؤدي إلى كساد الأعمال، وانتشار البطالة، وركود الأسواق، وانكماش الحركة الاقتصادية بصفة عامة.
ومن هنا كان إيجاب الزكاة كل حول فيما بلغ نصابًا من رأس المال النقدي -سواء ثمره صاحبه أم لم يثمره- هو أمثل خطة عملية للقضاء على حبس النقود واكتنازها، وذلك الداء الوبيل الذي حار علماء الاقتصاد في علاجه، حتى اقترح بعضهم أن تكون النقود غير قابلة للاكتناز بأن يحدد لها تاريخ إصدار، ومن ثم تفقد قيمتها بعد مضى مدة معينة من الزمن، فتبطل صلاحيتها للادخار والكنز، وتسمى هذه العملة المقترحة "النقود الذائبة" (انظر كتاب: "النظم النقدية والمصرفية" للدكتور عبد العزيز مرعى ص 31- طبعة سنة 1958).
لقد قام بعض رجال الغرب الاقتصاديين بتنفيذ فكرة أخرى، هي فرض رسم "دمغة" شهرية على كل ورقة نقدية حتى يحاول كل من يحوزها في يده التخلص منها قبل نهاية الشهر، ليدفع الرسم غيره، وهذا يؤدي إلى نشاط التبادل، واتساع حركة التداول، وانتعاش الاقتصاد بوجه عام (انظر كتاب: "خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي" للأستاذ محمود أبو السعود ص 25 وما بعدها وفيه تفصيل للتجربة المذكورة، التي طبقت في بلدية "فورجل" بالنمسا، ولاقت نجاحًا كبيرًا في حرب البطالة والربا والاكتناز وانتقلت إلى بلاد أخرى ثم حاربتها البنوك المركزية).
وهذه الوسائل -ما اقترح منها وما نفذ فعلاً- تلابسها صعوبات وتعقيدات كثيرة، ولكنها على أية حال، تؤيد وجهة النظر الإسلامية في النقود، ومقاومة اكتنازها بطريقة أبسط وأيسر من تلك الطرق، وهي فرض (2.5) بالمائة عليها سنويًا، مما يحفز الإنسان إلى تنميتها واستغلالها، حتى تنمي بالفعل وتدر دخلاً منتظمًا، وإلا أكلتها الزكاة بمرور الأيام. ولهذا جاء في الحديث الحث على الاتجار بأموال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة وإنما جاء الحث على تنمية أموال اليتامى خاصة، لأن المظنون في الإنسان ألا يهمل مال نفسه فيدع تنميته وتثميره، بمقتضى الدافع الذاتي والرغبة في المال.
أما اليتامى فمالهم في أيدي أوصياء قد يهملون تثميره عمدًا أو كسلاً. فجاء هذا الأمر النبوي الكريم يوجب ابتغاء التنمية في هذه الأموال، حفظًا عليها من التناقص والفناء. مقدار الواجب في زكاة النقود كما أجمع المسلمون على وجوب الزكاة في النقود، أجمعوا على مقدار الواجب فيها قال في المغنى: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم: أن زكاة الذهب والفضة ربع عشرهما (2.5بالمئة) وقد ثبت ذلك بقوله عليه السلام: "في الرقة ربع العشر" (المغنى: /7).
وإنما خففت الشريعة المقدار الواجب هنا، فلم تجعله العشر أو نصف العشر مثلاً، كما في زكاة الزروع والثمار، لأن الزرع والثمر بالنسبة إلى الأرض كالربح بالنسبة إلى رأس المال، فكأن الزكاة فيه ضريبة على الربح مراعى فيها الجهد والنفقة، بخلاف زكاة النقود، فهي ضريبة على رأس المال كله، سواء نمى أو لم ينم، ربح أم لم يربح.
والله أعلم .